حاول فى تلك الليلة أن يبكى لكنه لم يستطع، أراد أن يبكى لعله يزيح ذلك
الصخر الذى حط فوق صدره، فكاد يكتم انفاسه.. قال: إنه لم يشعر بوفاة ابيه
الا فى ذلك اليوم الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970... قال: إن مشكلة عبدالناصر
معه أنه احتل فى نفسه مكان الاب.. قال: إنه بعد زيارته لمصر عقب هزيمة 1967،
وعثوره على الأسباب الحقيقة لتلك الحرب الضاربة التى ووجهت بها مصر،
اكتشف انه اهتم - مع انغماسه فى مهمته الكبري- بإسرائيل ومشكلات إسرائيل
وما كان يدور فيها، دون ان يهتم بوطنه وما كان يحدث فيه... قال: إنه اكتشف ان عليه-
إن أراد ان يقوم بواجبه على الوجه الاكمل - الالمام بالصورة من كل جوانبها،
فى مصر، كما فى إسرائيل، كما فى العالم العربى المحيط بهما.. لذلك،
فإنه بعد عودته إلى إسرائيل، وضع نصب عينيه أن يعرف كل ما كان يدور
فى مصر وما يحدث فيها من تطورات... ولقد كان، كلما أمعن فى القراءة
والدراسة، يهوله الأمر... أدرك انهم كانوا لابد أن يضربوه، ويهزموه، كما
أدرك بوضوح، ان واجبه اصبح اكثر ثقلا، ومسئولياته أكثر جسامة!
كانت نيران الأحداث تنضج رأفت الهجان على مهل فراح يمارس واجبه بوعى
من يدرك حقائق الأمور... فى تلك الأيام راح يرقب ما حوله من فرح وحشى من
البعض، وحزن حقيقى من الذين كانوا يرون فى عبدالناصر عقبة امام جنون
البعض وبغيهم.... وهناك من كانوا يرون أن العداء السياسى شيء، والتقدير
الشخصى لزعيم مثل جمال عبدالناصر شيء آخر.
ولكن، كان هناك اجماع براحة عميقة، فلقد تخلصت إسرائيل، بضربة حظ لا تتكرر
فى الدهر مرتين، من ألد اعدائها وأكثرهم ضراوة وفهما لحقائق الأمور!
أما هو، فلقد لزم الصمت، والزم نفسه به، وامتنع عن مناقشته وتجنب الإدلاء برأيه فيه!
.........................
.........................
كان لابد للحزن ان ينحسر، وللحياة أن تأخذ مجراها!
ووجد رأفت الهجان نفسه أمام واجبات كانت تمتص كل وقته.
كان القتال قد توقف على جانبى القناة بعد قبول مصر لمبادرة روجرز....
وكما قبل جمال عبدالناصر تلك المبادرة كى يعطى الفرصة لدفاعه الجوى
ان يتحرك إلى أماكن متقدمة من الجبهة، استغلتها إسرائيل كى تدعم تحصيناتها
العسكرية فى سيناء... وكذا، كان لابد لذراع الفتى ان تمتد الى كل شبر فى شبه
الجزيرة المصرية، وكان هذا يحتاج الى تجنيد المزيد من الجنود، أو القيام برحلات
كان بعضها يمثل خطرا حقيقيا!
على الضفة الأخرى من القناة، بدأ رأفت يلمح بوادر ذلك الصراع السياسى الذى
نشب عند قمة السلطة فى وطنه... والذى بلغ ذروته فى اليوم الرابع عشر من مايو
عام 1971، وبدا له الامر فى لحظة ضيق- وكانت نفسه تقطر مرارة- أن الناس
فى مصر نسوا واجبهم المقدس وتفرغوا لصراعهم السياسى... وعندما احتدم ذلك
الصراع ووصل الى ذروته، أحس وكأنه يقف فى الميدان وحده!!!!