بقلم المهندسة سناء الدحروش
لم يكن عرب الجزيرة، وكذا غيرهم من بقية الشعوب، في القرن السابع الميلادي بالقادرين على استيعاب لفظ
" الطاقة "، والعالم كله لم يعرف من التقنيات والوسائل الحرفية و التنقلية، سوى اليدوية منها والتقليدية، فهل غفل الذّكر الحكيم، الذي لم يفرط فيه رب العزة من شيء ، عن ذكرها؟ أبداً،فقد ذكرت الطاقة بمعانيها لا بلفظها في مواقعها المناسبة، ولكن، استعمل القيوم جل جلاله، وهو العالم بفهم خلقه، كلمة وجدت طريقها إلى عقول العرب بكل سهولة، وهي كلمة" النار "،وهذا يشكّل في الوقت نفسه إعجازاً بيانياً رائعا ثم إعجازاً علمياً كما سنرى في الآية الكريمة :
(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون )(يس:80) فتفاسير السلف الصالح قد اتفقت على إعطاء كلمة
" النار" المعنى الأولي لها،وجعلت منها النار المحرقة المعروفة لدى الإنسان، فيصبح المعنى المنطقي للآية أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الشجر من الماء حتى صار أخضراً نضراً، ثم، وبخروج الماء منه، ييبس ويصبر حطباً قابل الإشعال،فتوقد به النار(مختصر تفسير بن كثير).
((وقد ذهب السيد قطب أبعد من المشاهدة الأولية الساذجة، إلى المعرفة العلمية العميقة لطبيعة الحرارة التي يختزنها الشجر من الطاقة الشمسية فيمتصها ويحتفظ بها، وهو ريان بالماء ناضر بالخضرة، والّتي تولد النار عند الاحتكاك، كما تولد النار عند الاحتراق، وذلك بالرجوع لنوعين من الأشجار المعروفة عند العرب وهما ألمرخ والعفار، والتي تستطيع أغصانها وهي خضراء قدح النار(في ظلال القرآن).
أما محمد علي الصابوني فكان له نفس اتجاه الطبري،إذ قال: " جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً تحرق الشجر،لا يمتنع عليه فعل ما أراد ولا يبعد.(صفوة التفاسير)، وقال أبو حيان: " ذّكر تعالى ما هو أغرب، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر،ألا ترى أن الماء يطفأ النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء ً)).
فهذه التفاسير سواء المنطقي منها أو الفلسفي، لا يشوبنا شك في صحتها، ولا يدور بخلدنا أن ننتقص منها، بل تبقى قائمة منذ ظهورها وحتى آخر الزمن، ولكن - وهنا تكمن معجزة الاستمرارية في القرآن،ومواكبته لكل التحوّلات والحضارات،واشتماله على كل ما قد يصل إليه الإنسان من علم واختراعات، (ما فرطنا في الكتاب من شيء) -نستطيع، وبرؤية علمية حديثة، أن نضيف إلى التفاسير السابقة تفسيرا جديدا، فلفظ(الشّجر الأخضر) مباشرة قبل لفظ (النّار) كان يشدّ انتباهي دائماً بأن هناك معجزة أو إعجاز أراد الرّحمن أن يمتحن به اجتهادنا ورغبتنا في الإطلاع والإلمام بأمور ديننا، حتّى وقعت على كتاب لعالمة في الأحياء النّباتيّة بالفرنسيّة عنوانه: ٌنار حقيقيّة فوق الأشجار المورقةٌ(1)فكانت المرة الثانية بعد الآية الكريمة من سورة يس- وللّه المثل الأعلى- التي أرى فيها ربطاً بين الشجر المورق (أي الأخضر) وبين الناّر، والكتاب يتناول عمليّة التّركيب الضوئي أوLa photosynthèse ويبيّن بالتّجارب العلميّة أنّها تجعل الشجر الأخضر المورق يضطرم ( نارا)لا يعلم بها إلاّ خالقها ولا تراها العين البشريّة القاصرة.
فعمليّة التركيب الضّوئي هي عمليّة مركّبة من مرحلتين: مرحلة (ضوئيّة) تتم خلال النّهار وتستلزم وجود أشعّة الشّمس، تمتصّ خلالها الأوراق ثاني أكسيد الكربونCO2من الهواء بمساعدة (اليخضور) La chlorophylleوهو العنصر الأخضر اللّون الموجود على الأوراق -خاصّة في الجهة الّتي تستقبل أشعّة الِشّمس، (وكذلك على بعض أنواع البكتيريا)، تتشكّل خلالها وحدات طاقيّة أو مخزّنات للطاقة الكيماويّة تدعى ATPوNADPH (هذه الأخيرة هي المسؤولة عن جمع الطّاقة الصّادرة عن سقوط الإلكترون من مستوى معيّن إلى مستوى أدنى منه في ذرّات الكربون،بسبب أشعّة الشّمس) وحاصل هذه المرحلة الأولى هو إطلاق ثاني الأكسجين Le dioxideأوO2من الورقة.
أمّا المرحلة الثاّنية (المُظلمة)، وتسمى كذلك لاستغنائها عن أشعّة الشّمس، ولذلك هي تتمّ خلال اللّيل، فبفضل الطّاقة المخزّنة في تلك الوحدات الطّاقية يتمّ تحوّل الكربون الذي يحتويه ثاني أكسيد الكربون، وفي مفاعلة كيماويّة مع الماء الذي تمتصّه الجذور،إلى سكّر الجليكوز Glucoseالمغذّي للنّبتة ،وحاصل هذه المرحلة هو الغاز الكربوني الفائض وبخار الماء،وطاقة كيماويّة تقدّر ب42كج لكل ّجليكوز,وهذه العمليّة المعقّدة الّتي تجري كلّ يوم على سطح الأوراق الخضراء، تتحوّل الورقة إلى معمل كيماوي مُصغّر،حيث يتمّ خلالها تحويل المواد المعدنيّة من ماء وثاني أكسيد الكربون ،إلى مواد عضويّة(سكّر الجليكوز) تعتمد عليها النّبتة في غذائها،بفضل تلك المُخزّنات الطّاقية الّتي سهّلت التفاعلات الكيماوية،والتي لولا أشعّة الشّمس لما وجدت ولما أمكن لعمليّة التّركيب الضّوئي أن تتم .
ATP + H2O ---------------------------> AMP + Pi + Pi
أما بالنسبة للآيات التّالية
أفرأيتم النار التي تورون*أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون*نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين*فسبح باسم ربك العظيم)(الواقعة:71-74)، فقد رجعت إلى نفس التفاسير المذكورة(ابن كثير والصابوني وسيد قطب والمراغي)فكان ل(النّار) نفس المعنى الأولي الذي أُعطي لها في الآية الكريمة من سورة يس، أي النّار المشتعلة المُحرقة،و(المقوين) لغوياً تعني النّازلين بأرض قواء،أي المسافرين،أما(التذكرة)فهي تذكير لنار جهنّم والعياذ بالله، و(متاع)أي منفعة،فهم يوقدون النار لهداية الضال ولطهي الطعام وللاستئناس.
((يقول أحمد مصطفى المراغي: نحن جعلناها النار المتبصّرة في أمر البعث،حيث علّقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به،ومنفعة لهم من القواء والمفاوز من المسافرين،فكم من قوم سافروا ثم أرملوا فأحجوا نارا فاستدفأوا وانتفعوا بها.
أما محمد علي الصابوني فقد رجع لشجرتي ألمرخ والعفار اللتان تقدحان النار رغم اخضرارهما،لشرح قوله تعالى
أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون) ًو(التذكرة)هي تذكير لنار جهنّم والعياذ بالله، و(المتاع)أي منفعة للمسافرين،فانتفاعهم بالنار أكثر من المقيمين للاستئناس والطهي.
وقال بن عبّاس ومجاهد:يعني بالمقوين المسافرين،واختاره بن جرير،وقال ليث عن مجاهد:للحاضر والمسافر،لكل طعام لا يصله إلا النار،وعنه للمقوين ،أي المستمتعين من الناس أجمعين،وهذا التفسير أعم من غيره،ثم من لطف الله تعالى أن أودعها الأحجار وخالص الحديد،بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه)).
فما هي العلاقة المباشرة بين النار والسفر؟وهل التذكير بعذاب النار لا يعقله سوى المنتقلون من مكان للآخر؟ وهل الانتفاع بها هو خاص بالمسافرين؟هل يكون المعنى هو فقط ما كان يوقده العرب خلال رحلاتهم لطهي الطعام وللإستاناس مثلا؟ولكن هي أيضاً (متاع)،والمتاع يحمله المسافر بصورة دائمة، وتلك النار كانت توقد لسوّيعات قصيرة ثم تطفأ ليسير الركب في طريقه بدونها، إذن عن أي (مسافرين حملة النار) تكلّمت الآية الكريمة؟ الجواب،والله أعلم، هم نحن، راكبوا السيّارات والبواخر والطائرات،التي تتزوّد بالمحروقات ليمكنها الاشتغال والحركة، أليست هذه المحروقات من بنزين وكيروسين هي التي تزود المحرك بطاقة ميكانيكيّة لتمكّنه من العمل؟ أليست (متاعا) إذا غاب توقّفت الحركة؟ أليست كذلك تذكرة لنا.
- ونحن نطير في الأجواء على متن طائرة أو نمخر عباب البحر على متن باخرة - بأن الله جلّ جلاله هو من سخّرها لنا لنصل إلى ما وصلنا إليه.