سقراط ..موت كالحياة.
جاءت الكلمة بكل شيء علي وجه البسيطة ..قادها الأنبياء من بعد التلقي الإلهي..وتلقاها الفلاسفة من بعد لأي وعنت عقلي ,,قد أصاب منهم من أصاب ,خاب وضل من ضل,ولكن تبقي شرف الكلمة واعتصارها من خلاصة فكر وتجوال في كنه الحياة.
دمامة سقراط لم تجعل منه شخصا لافت للنساء , كث الشعر أشعثه ,مفلطح الأنف ,عين غاصة في بؤبؤها, أعضاؤه لا انتظام فيها,و هذا ما جعل زوجته تراه كريها ,بل من ظلمها له عدته دعيا منادعياء الكهانة والحكمة ,و لا يقدرها حق قدرها كامرأة(حبيبك يبلع لك الزلط ,وعدوك يتمني لك الغلط) ,فهي من علية القوم ,هو من العامة ,أمه قابلة (داية) تولد النساء, أبوه صانع تماثيل, فعمل وقتا ما في مهنة أبيه , ولكنه قد أعجبته مهنة أمه كثيرا ,فانتهج سبيل أمه , ولكن من وجهة نظره ,وهو توليد الحقيقة من أدمغة الرجال .
كان عصر سقراط عصرا مزدهرا نتاج الانتصار الذي تحقق علي الفرس,فظهرت طبقة من الموسرين,أو أثرياء الحرب ,وكثرت الإباحية ,ضاعت معالم التربية الأثنية التليدة والموروثة,و انتشرت موجة من الانحلال الخلقي وإهدار القيم الأدبية ,واستباحة كل محرم.
في تلك الأجواء ,يظهر فئة مجادلة ,لا هم لها غير ادعاء الحكمة و الفلسفة ,جل فلسفته أن لا حقيقة في الدنيا ,إنما حقيقة كل إنسان كما تبدو له (ليست عنا ببعيد) ,أن الحق متغير بتغير الأشخاص( هكذا تكونون) وأن الإنسان ليس بقيد في معصمه أن يطلب السعادة والخير (كما يري خياله المريض) إلا باللذة الجسدية ,إشباع الشهوة (أي شهوة )..هكذا بدا الاستهتار في أجواء اليونان , وأصبح العلم والتعليم مناي عن الطلب والطلاب,وصار العدوان عليهما اختلاسا لحقيقته.
راع هذا المشهد سقراط ,فراح بكل ما يملك من كل شيء , يجوب المجامع العلمية ,حلقات التعليم, والملاعب والمسارح,ويناقش أشهر الناس علما ويلقي عليهم تساؤلاته ,التي تبدو ساذجة للوهلة الأولي ,ثم يأخذهم في متاهات الحرج ,عبر أسئلته ,فيوقع الشخص العليم في التناقضات المضحكة و فيضحك منه السامعون , ويظهر جهله جليا أمام كل رائي,و هذا أسلوب ولدته الظروف ,و نباهة سقراط, في الحوار والفلسفة . وتجمع لديه فئام كثيرة من الشباب الأذكياء, وأصبحت له حلقة بلغت شهرتها آفاق اليونان, يحرص الناس علي الاستماع لها , كي يرون كل جديد ,كان هذا الجديد ,توجيه الناس إلي الحقيقة ومكارم الأخلاق, وكان من التواضع أن يقول عن نفسه أنه طالب حكمة وليس حكيما, بل هو كل الجهل في ذاته , فكانت فلسفته أن يعرف العلم عن طريق معرفة حقيقة نفسه, ويدعو الناس معرفة أنفسهم بأنفسهم, معرفة النفس هي مقدمة علي معرفة العالم لدي سقراط.
هناك شق آخر في هذا المستجد من الأسلوب الذي اتبعه سقراط أن هيج عليه أدعياء العلم والحكمة ,(السفسطائيون) الذين كانوا ممن يبيعون فتاوي الفساد ,اقوال معوجة ,أفعال مهترأة ,و لكنهم فريحن بها ران علي قلوبهم سوءة نفوسهم, ويعلمون الخطابة والجدل لقاء أجر ضخم (حوارات فارغة لا طائل منها غير التشاكس ثم القطيعة بلا غاية أو هدف قد اتصل بهم ,ولأن سقراط العظيم ,قد أظهر فساد رأيهم ونافسهم ,فأفسد عليهم كما يقال "تجارتهم"و بارت في الأسواق,بما آثر من الفقر والعفة ,و كانت مصدر جذب وتقدير له من الناس والعامة.
مع الوقت وزادت الخصومة والعداء له من السفسطايين ,فحاولوا الإيقاع به ,ولكن لم يجدوا عليه نقيصة ,ماذا يقولون عنه حتي يصلوا إلي مبتغاهم؟ خائن ..لص.. متواطيء.. لم يكن حاله يشي بكل تلك التهم والمسبات,لم يبق غير شيء وحيد , وهو الطعن في عقيدته وفلسفته وقيمه وسلوكه الأخلاقي المنظر, باسم الدين ( دوما الأعداء يلجون في الدين حينما يعجزون في مواجهة المنافسين ,وليس الحلاج ببعيد عن هذا) وكما انه يدعو إلي هدم النظام الاجتماعي الأثيني ,تخيلوا يهدم النظام (سبحان الله) وكثيرا ما تنطلي علي الغوغاء.
ثم دارت محاكمة شائهة ظالمة للرجل , انتهت بأغلبية 281 قاضي بقضون بالإعدام ,و رفضه 219 قاضي , وحكم بتجرع السم المذاب في كاس العسل....!
مات سقراط وبقي حيا في ذاكرة الإنسانية إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.